تضحيات المقاومة ابان الاستعمار الفرنسي

كان هذا خطابي الافتتاحي للندوة التي أقمناها اليوم تحت عنوان تثمينا لتضحيات شهدائنا وتأسيا بحبهم للوطن في موري سانتر وقد تميزت بحضور متميز وفخم لشخصيات علميّة ووطنية واجتماعية سامقة
وهذا نص الكلمة
السيد المكلف بمهمة ممثلا لوزير الثقافة
السادة ضيوف الشرف الفضلاء
السادة رؤساء الجلسات
السادة الأساتذة المحاضرون
السادة أعضاء الرابطة
السادة الحضور

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

قال جل من قائل

الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسِهم أعظمُ درجةً عند الله، وأولئك هم الفائزون”.. صدق الله العظيم. لا شك أنه لم يبق، بعد هذه الآية الكريمة، ما يستدل به على عظمة الجهاد أو ما يطلق عليه في قاموس اليوم المقاومة . لكنْ دعوني، قبل الولوج إلى لب الموضوع، أصالة عن نفسي، ونيابة عن أعضاء الرابطة الوطنية لتخليد بطولات المقاومة الوطنية،أن أتشرف بتقديم خالصِى الشكر ووافر الامتنان لفخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني الذي نحْيي هذه الذكريات المجيدة تحت رعايته الكريمة وبدعم معنوي من لدنْه.
�أيها الجمع الموقر،
ولهذا نحن، وإياكم، ملتئمون هاهنا للتعبير عن تقديرنا وتعظيمنا لدور الأسلاف في رفع اسم هذا المجتمع عاليا في عنان سماء المجد، وإدراجه في أحداث التاريخ الرصينة عبر محطات تاريخيّة مشهودة في الجهاد بالدرجة الأولى، ولحماية هذه الحوزة الترابية التي كانت وما زالت وستظل أمانة في أعناقنا إلى يوم الدين، وإنْ كنا قد تنازلنا عن بعضها، بينما كانت حياة الأجداد كلها ابتلاءاتٍ من أجلها.

ولعمري إنها لَتجليات مضيئة لشعبنا، سطرها أبطاله الميامين بدمائهم الزكية وتضحياتهم العظيمة على أبهى صفحات التاريخ، فكانوا أبطالَ زمانِهم حينما يكون لكل زمان أبطالُه، رغم أنهم لم يملكوا من مصادر القوة سوى العوامل الذاتية: من إيمان صادق، وإرادة قوية، وتصميم لا يُقهر. بهذا أورثونا أمجادا وانتصاراتٍ جليلةً، مرتبين علينا مسؤوليات جساما مفعمةً بالمعاني السامية لقيّم الفروسية، وفرصةً لاستلهام دروس التضحية والعبر من أجل تثمينها وصيانتها وإجلالها وتخليدها.
�إخوتنا الأكارم،
هكذا يكون اجتماعنا اليوم تعبيرا صادقا عن تعلقنا بذلك الموروث وبتلك المثل، والاعتراف بالجميل لمن ضحوا من أجلنا، سيادة وأرضا وتاريخا ومجدا، حتى أصبحنا في بلد مستقل باسم موريتانيا. ومع أنها -لطفا بأنفسنا -ليست ساعة جردة الحساب، فإنها لحظةُ تدارس ونقاش محطة من تلك المحطات التي يأبى التاريخ إلا أن يذكرنا بها في مثل هذا الشهر من كل سنة، وكأنه يحثنا ويستنهضنا، فهلا تذكرنا ونهضنا أو ارعوينا!.
�أيها الجمع الكريم،
إن الجهاد والتضحية كانا صفتين اقترنتا بإنسان هذه الأرض منذ الأزل. وقد كانت المقاومة إحدى تجلياته المضيئة، وهكذا كان جهادهم عقيدة واحدة متساوقا مع الفهم الصحيح للدين ومتحدا في سياقه الزماني والمكاني ومتماهيا مع الشرف وكان بذلك يعبر عن حقيقة واحدة فلمادا يا ترى لا تكون هي الأسطورة المؤسسة لدولتنا مع أن هذه الحٍقبة ليست استثنائية ولا الأولي، لكنها كانت حلقة من نسق عام درج عليه أسلافنا الذين كانوا ينظرون إلى أبعد من ذواتهم ومحيطهم، متعلقين بالسماء ونهجها دفاعا عن الأرض والدين: “من المومنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبَه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا” صدق الله العظيم. إنه نفسُ السياق ونفس الفكر الذي ولدت منه حركة المرابطين المنبجسة بمعجزة تاريخيّة من على ساحل هذا البحر، فبزغ نورها بعد أن أسسها الأجداد من إرادة إيمانية صادقة 1034م، في فترة لم تكن بها دولةٌ مركزية، ولم يكن ثمة هدف فيها سوى وجه الله تعالى، وإذ لا زادَ إلا التقوى، ولا ثوبَ إلا ما يستر البدن، ولا سلاحَ إلا العِصِيّ والسكاكين والسيوف وعظمة الرجال. وقد امتد نفوذ هؤلاء الأسلاف إلى جنوب فرنسا، وشيدوا دولة إسلامية كانت ملاذا وحصنا منيعا للدين، وأعطوا مثالا تاريخيا أبلجَ، ظل ناصعا لما يعنيه من زهد وشجاعة وإنصاف ورُقِي لا في تشييد القصور والملذات، لكن في تشييد الإيمان الراسخ، والعطاء العلمي الجزل، والذود الثابت المطّرد عن الإسلام والمسلمين.

أعزاءنا الأفاضل،
لقد استشهد زعماء المرابطين المؤسسين وهم في الميدان مثل يحيى ابن عامر وأخيه بوبكر وغيرهما، شأنهم في ملحمة الجهاد والاستشهاد شأنُ حفيدهم الشهيد الأمير بكار ولد اسويد أحمد، والشهداء الأمير أحمد ولد سيدي إعل الملقب ولد عساس سيدي أحمد ولد أحمد عيدهممادو لامين ادرامى، سيدي ولد مولاي الزين، المختار أم ولد الحيدب، أحمد ولد اعميرَه، حدبون ولد جدّو ولد لخليفه، محمد تقي الله الملقب وجاهة، سيدي ولد الشيخ ولد لعروسي، وسيدي أحمد ولد هيبه و مولاي ولد احمياده والمجاهدون إحمد ولد الديد والمختار ولد إحمدوعابدين ولد الشيخ سيدي المختار وغيرهم وغيرهم ممّن سطروا ملاحمَ تاريخية عظيمة وقصصا وبطولات ملهمة. ولا يسعني هنا إلا أن أثمن عاليا الدور المرجعي والمحوري والحاسم الذي قام به المجاهد العظيم الشيخ ماء العينين في دعم وإطالة أمد الجهاد في البلد وهكذا تجاوزت نهدة الجهاد في البلد أكثر من 50 معركة على امتداد أرض الوطن و على مدى 32 سنة من عدم الاستقرار والأمان . وكان عدد القتلى في صفوف المحتل 541 قتيلا بينما وصل عدد شهدائنا 431 شهيدا خلال عملية الاحتلال، ووصل أفراد القوة العسكرية الفرنسية 6667 بين جندي وقائد بينما حشد المجاهدون 6538 مجاهدا ..

إخوتنا الأعزاء،
هذه المعلومات ليست نهائية، ولا هي بالمكتملة، إلا أنها تمنحنا فرصة لتقييم يلهمنا الاعتزاز والفخر بالموقف الوطني من الاحتلال، وبقوة المجابهة والتضحية وأهميتهما في تاريخنا، فالشعب الذي قدم هذا الحجم من التضحيات لم يكن حينها سوى 700 ألف نسمة تعيقها المواصلات والذخيرة وحتى الماء والغذاء. لقد كانت مقاومة باسلة وشرسة، لذلك أخذت أشكالا عديدة: عسكرية ومدنية. وقد ظل السيف والقلم خلالها متواجشين، يوحدهما الدين والقيّم والإرادة الصلبة. ونتيجة لذلك، شكل الشعب الموريتاني حاضنة للجهاد، فقهًا وأدبا وسلوكا (معارك، فتاوي، مقاطعة، ممانعة، شعر..) إنها مرحلة وضاءة من تاريخ البلد، لا أدري ولا أعرف بأي منطق نتجاهلها فلا ندرّسها لأبنائنا، ولا نستحضرها في أيامنا ، ولا نمنحها البعد الوطني والقيمة الأخلاقية في ثقافة المجتمع، ولا نرسّمها في ابروتوكولاتالدولة، مع أن البلدان، في الجوار وأبعد من ذلك، تعاملت بجدية مع تاريخها وتضحيات أبنائها، فرفعتها عالية في سلم الدولة الوظيفي، اعترافا بها كتضحيات من أجل البلد ولعمومه، وكتاريخ مضيء ووضّاء، وكقاعدة للحمة والمجد. وهكذا سعت الجزائر والمغرب والكويت والعراق ومصر وكثير من البلدان إلى ترجمة ذلك الاعتراف بأن أنشأت قطاعات حكوميةً في شكل وزارات أو مؤسسات رسمية سامية ابروتوكوليا، تابعة للرئيس أو الملك. مع أن تضحيات آبائنا وأجدادنا لا تقل شأنا، لا في الحجم ولا في النوع مع صعوبة وقساوة الظروف وغياب دولة مركزية.

أيها الجمع الكريم،
إننا نتطلع لأن يلبي فخامة رئيس الجمهورية، وهو من يقدّر ذلك حق تقديره، مطالبَنا الرامية إلى إنشاء قطاع حكومي خاص بالمقاومة الوطنية وآن يكون النصبُالتذكاري في خطة انواكشوط مدينة عصرية من نصيب الشهداء وبتسمية ساحة الحرية بساحة الشهداء ويكون لدينا يوم للشهيد أو تظاهرة ثقافية يحضرها الرئيس مرة في السنة باسم تظاهرة الشهيد ودعم الدولة لكتابة التاريخ وتدريسه في مداسنا كمادة أساسية إن هذا هو أقلُ درجات الوفاء لهؤلاء الشهداءَ الذين ضحوا لأجلنا بأنفسهم وأموالهم وسلطانهم .

أيها الأكارم الأفاضل،
لم يبق لي، وأنا أنحني بتواضع أمام قاماتكم السامقة، إلا أن أشكَركم على حضوركم معنا لتخليد هذا اليوم الأغر، وهو حضور أعتبره منبعَ فخر واعتزاز ومؤازرة لنا في مسؤولياتنا ونشاطاتنا. جعله الله تعالى في ميزان حسناتكم، وبارك الله فيكم ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.


 

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *