الكاتب محمد محمود ولد بكار يكتب عن الراحل الدي ولد ابراهيم ولد بكار ودوره في بناء الدولة

تم اليوم، في نواكشوط، نعي الوالد وإبن العم الدي ولد إبراهيم ولد بكار، تغمده الله برحمته وواسع مغفرته.
يعد الدي واحد من الرعيل الأول الذي ساهم في بناء الدولة ونظامها الديمقراطي، فبعد مؤتمر كيهيدي، سنة 1964، الذي غير الطبيعة “الديمقراطية ” لبنية النظام السياسي حينها وحولها إلى ديكتاتورية الفرد، قال الدي لصديقه بوياگي أن هذا النظام الجديد الذي تم تمريره عبر المؤتمر الاستثنائي للحزب الذي كان مؤتمراً للشباب يقضي بتصفيتهم، هم الذين وقفوا بقوة ضد عزل سليمان ولد الشيخ سيدي حينها من رئاسة البرلمان ضد إرادة المختار، وأن عليهم أن لا يقبلوه. وكان بيواگي زعيم النهضة ما يزال يتمتع بشرعية سياسية واجتماعية حينها، فأعلن الدي وبوياگي استقالتهما من الحكومة وأقنعا معهما حمود ولد أحمد رئيس البرلمان. وكان كل من هيبه ولد همدي وشيخنا ولد محمد لقطف (رحم الله الجميع) قد أعلنا داخل قاعة المؤتمر في كيهيدي أن هذا يخالف القوانين الأساسية للحزب ونظامه الداخلي .
قامت المجموعة المذكورة بالتوجه للولايات الداخلية والشرقية بالخصوص ، مرورا بعبد الرحمن ولد بكار، من أجل استدعاء الشيوخ لنواكشوط وعقد مؤتمر لعزل المختار ولد داداه. وقد استجاب لهم الشيوخ الفاعلون حينها في تلك المناطق. في نفس الوقت حضر الأمراء من آدرار واترارزة وزعماء القبائل، لكن المختار بحنكته فرق تلك الجموع حيث لعب على تحالفه الاستراتيجي الذي نسقه الفرنسيون أصلا مع عبد الرحمن .بعد ذلك أسست المجموعة جريدة معارضة وقال الدي أن المختار أراد أن يصادرها بموجب القانون حينها، لكن أحمد ولد محمد صالح منعه من ذلك لكي لا يكون فعل فعلا مشينا، وأرسل لها الشرطة في الليل حيث لم يكن هناك حارس وأخذوها .
ويقول الدي أنه ذات يوم اصطحب وبوياگي لمنزل أحمد ولد محمد صالح وعلى هامش الغداء قالا له: “لماذا أخذتم جريدتنا بهذه الطريقة? نحن سنأخذ الحكم وحينها سنحاكمكم على هذه الأعمال”. فرد عليهم أحمد: “لا تفعلوا ذلك لإننا سنؤسس جريدة، ونعجز في الأخير عن تمويلها ، ونقول بأنكم سرقتموها. وينتهي الأمر”. فضحك الجميع .
وكان الدّي ضمن هذه المجموعة التي حكمت البلد بالعقل والشهامة، فلم يكونوا قد نالوا درجة عالية من التعليم، ومع ذلك كانوا بمستويات راقية من حسن الادارة واحترام الاجراءات والمساطر، وكانت لهم القدرة الكبيرة على التعامل مع الأوضاع حسب “فقه الوضعية” تمشيا مع الشهامة، فمن ذلك أنه بعد العزومة التي أقامها المختار على شرف جماعة النهضة القادمة من المغرب، فهم المختار أنهم مازالوا قد يشكلون عليه خطرا، حيث افتتح المختار الكلام مرحبا بهم في بداية مأدبة العشاء وبعودتهم لبلدهم، لكن رد محمد فال ولد عمير لم يكن ينسجم مع ظن المختار حيث قال: “نحن لم نعد للبلد سياحة ولا عزوفا عن السياسية، بل من أجل المشاركة والعمل السياسي”. الأمر الذي لم يرق للمختار. وتقول أوساط سياسية أن الأمن نظم خطة حيث ضبط تاجر في ازويرات متهم بأنه إليهم من المغرب يحمل مخططا سياسيا، وعلى أثر ذلك تم توجيه محمد فال ولد عمير إلى سجن لعيون حيث كان الدي والي تلك الدائرة، لكنه عندما جاء لم يسجنه. بل تركه طليقا وأرسل إليه قطيعا من الإبل. وظل بذلك مدة إلى أن جاء أحد أقربائه من نواكشوط لأجل السلام عليه فوجده في وضعية الدعة والاستجمام هذه، وكان موظفا، فتحدث في نواكشوط عن الوضعية المريحة والكريمة التي وضع فيها الدي السجين ولد عمير، فعلم المختار، وجاءت برقية عاجلة من وزارة الداخلية للدي بالدخول إلى نواكشوط في أول طائرة. لم يفهم الدي السبب وركب في أول رحلة متوجهة إلى نواكشوط وجاء كعادته لمكان إقامته الدائم حينما يكون في نواكشوط حتى في ذروة معارضته وهو منزل أحمد ولد محمد صالح، وزير الداخلية والشخصية الثانية في نظام المختار . لم يتطرقا للحديث. وعند الصباح الباكر توجه الدي إلى مكتب الوزير ودخل عليه وقال له: لماذا استدعيتني على جناح السرعة؟ قال له: لست أنا من استدعاك، بل هو المختار .
ذهب الدي إلى الرئيس، ودخل عليه، وبعد السلام سأله عن وضعية محمد فال ولد عمير التي تناهت إلى مسمعه ولماذا يتركه طليقا، فقال له: نعم، لقد تركته طليقا لأني أعتبر أن سجنه ليس هو الهدف، بل الهدف عزله عن المجتمع السياسي أو الخوف من عودته للمغرب، وأنا أماثله بنفسي أني لن أهرب في مثل هذه الحالات، وبالتالي على يقين من أن له بدنس نفسه بالهروب من السجن وحتى لو كانت معارضته لهم قوية ولا يقدر على تحملها على نفسه فلن يطعنه في الظهر يمنعه من ذلك شهامته وكما أنه في جميع الحالات مستعد لأن يضع نفسه محله إن هو هرب ،وعلى ذلك الأساس عاملته بما يليق .فهم المختار الرسالة وتفهّم الموقف عاد لسؤاله عن أحوال الولاية وتبادلا أطراف حديث ودي وانهى المقابلة .عاد الذي لصديقه أحمد وقال له لماذا لما تخبرني بالموضوع قال له أنا لست من استدعيتك ولذلك تركت صاحب الأمر يتحدث أليك بنفسه . عاد الذي إلى لعيون وظل محمد فال هناك على نفس الحالة حتى تم نقله بسبب المرض في الرحلة التي التقاه فيها محمد المختار ولد إباه، ثم توجه إلى داكار حيث وافاه الأجل. وهنا حدثت قصة عجيبة أيضا له مع بكار ولد احمد الذي كان سفيرا، وقد كانت وصية محمد فال له أن يدفن في مدفن أهل أَلِمَّا بتندكسمي ربوع العالم الشهير محمد سالم ولد ألما . وعندما وافاه الأجل، أبرق السفير لوزير الخارجية أنه قد توفي، وانه يريد نقله إلى ضواحي المذرذرة وفاء بوصيّته، لكن وزير الخارجية أبرق بالمنع النهائي .لم يستلم السفير وأجر طائرة صغيرة على حسابه الخاص إلى نواكشوط وتوجه مباشرة للقصر الرئاسي، (كان السفير يمكن أن يتوجه مباشرة إلى الرئيس أمام الحالات الطارئة،وكان وزير الداخلية يحول الحكام دون الرجوع للرئيس “ووجد المختار وأحمد ولد محمد صالح ينتظران مريم داداه للذهاب إلى منزل أحمد حيث عزمهم للعشاء، فسلم عليهما واختلى بأحمد وقص عليه القصة وطلب منه المساعدة ثم توجه إلى المختار وقال له الخبر، فأشار المختار إلى أحمد بالاقتراب وقال للسفير إسأل أحمد إذا كان الجانب الأمني غير مهدد فلا مشكلة عندي، فأجاب أحمد من جهتنا نحن لا مشكلة، فرجع بكار لطائرته وقام بمراسيم ترحيل جثمان المرحوم .غفر الله لهم وأسكنهم في فردوسه الأعلى مع الأنبياء والصالحين .
“تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ماكسبتم ولا تسألون عن ما كانوا يعملون “.لقد رحلوا بالأخلاق وبقيم الوفاء والصدق والإخلاص للبلد وتركونا على ما نحن عليه .
ملاحظة الفقيد على اليمين في الصورة

 

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *